الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني لم تعتمد على القتل والتشريد فقط ، بل تجاوزتها إلى "حرب وجودية" تتعلق بمختلف مكونات الهوية الثقافية لهذا الشعب. فالهوية الفلسطينية تواجه حرباً لا تقل ضراوة عن الجهد القديم -الجديد الإحلالي الاستعماري (الاستيطاني) الممارس إسرائيلياً منذ تأسيس الكيان الصهيوني. فمؤخراً، طرح البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) مزيداً من القوانين العنصرية غير المسبوقة التي تستهدف فلسطينيي 48 ووجودهم. وتتنافس الأحزاب الصهيونية عبر طرح العديد من القوانين العنصرية لإثبات من منها هو الأقرب إلى وجهة النظر اليهودية المتطرفة سعياً لكسب "الشعبية" لدى الرأي العام الإسرائيلي المنزاح حالياً، وبقوة، نحو اليمين. وقد ضاقت إسرائيل الراهنة ذرعاً باللغة العربية، وباتت لا تحتملها لغة رسمية بفلسطين مثلما عرفتها قوانين الانتداب البريطاني، حيث بادر رئيس "الشاباك" السابق "آفي ديختر"، النائب عن حزب "كاديما" المعارض(!) بطرح مقترح قانون "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي" الذي صاغه بالتعاون مع "المعهد الاستراتيجي للصهيونية"، فانضم إليه ثلث النواب اليهود بالكنيست. وينص مشروع القانون هذا على عدم الاعتراف بالعربية لغة رسمية بالدولة، مما يعني انحداراً خطيراً نحو العنصرية والفاشية وتهميش 1.4 مليون فلسطيني يشكلون قرابة 20 في المئة من مجمل سكان "إسرائيل". ويهدف القانون المقترح إلى إلزام كل مواطن بالولاء والقسم بأن "إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، ومن يمتنع عن ذلك يكون عرضة للعقاب"، مع التشديد على أن "النظام الديمقراطي" بإسرائيل مرتبط بالديانة اليهودية. ويندرج مقترح القانون هذا ضمن الإجراءات التي اتخذت لتهميش اللغة العربية وتشويهها كجزء من الهجمة على فلسطينيي 48 في محاولة إسرائيلية لسلب مواطنتهم وشطب هويتهم وتشويه تراثهم وتغييبهم عن المحيط العربي، وصولاً إلى حظر التدريس باللغة العربية بمدارس فلسطيني 48 الذي سيؤدي إلى خلق جيل معدوم الهوية والقومية، خاصة بعد أن تم إلزام التلاميذ الفلسطينيين هناك بتعلم المناهج الإسرائيلية بما فيه تاريخ "الأمة اليهودية"، وتقديم امتحان في موضوع "المحرقة" ضمن مادة التاريخ للثانوية العامة، علاوة على منعهم من دراسة مواد عن التاريخ والشعر العربي والنكبة الفلسطينية. ومؤخراً، طرحت قوى اليمين الإسرائيلي المتطرف مشروع قانون إسكات صوت الأذان في المساجد، بحجة أنه يزعج المواطنين اليهود في البلدات القريبة، والذي حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) إقناع حزبه (الليكود) بالتصويت عليه. كما أصدر الكنيست مشروعاً يعنى بمعاقبة كل من لا يتجاوب مع رموز الدولة، خاصة "النشيد القومي" في الجامعات. هذه القوانين وغيرها مما فاض مخزونه فأصاب إسرائيليين آخرين من غير فلسطينيي 48، جعلت حتى بيريز يوجه انتقادات شديدة إلى أعضاء الكنيست من أحزاب اليمين الذين بادروا إلى طرح مشروعات قوانين عنصرية ومعادية للديمقراطية، مشيراً إلى أنه "يخجل" بهذه القوانين، بل وصفها بأنها "مسيرة البلهاء"، مضيفاً أنها "تخرب صورتنا وحسب". وفي ظل هذا الفيض المتفاقم، لم تستطع وزيرة الخارجية الأميركية الاستمرار في التظاهر بالحيادية، فأعربت عن خشيتها البالغة من سلسلة القوانين التي تستهدف ما أسمته "ركائز الديمقراطية في إسرائيل" (المتمثلة بالمحكمة العليا والصحافة ومنظمات حقوق الإنسان) الجاري تشريعها في الكنيست حالياً. ويقول "ناحوم برنياع" في مقال بعنوان "رؤيتهم فقط"، رداً على تصريحات كلينتون: "يشعر يهود أميركيون كثيرون مثلها. فالأكثرية الغالبة من اليهود في أميركا ينتسبون إلى التيار الليبرالي، ويبدو أن إسرائيل لم تكن قط أبعد عن قلوبهم مما هي الآن، فهي غريبة عليهم ومتطرفة وظلامية ومعادية، وهم يرون أنهم هم اليهود الحقيقيون". ومن أبرز المقالات الإسرائيلية الكاشفة، مقالٌ وضعه "جدعون ليفي" بعنوان "حرب ثقافية في إسرائيل" أوضح فيه أن ما يجري يستهدف قوى إسرائيلية ليبرالية متنورة أيضاً. ومن ضمن ما قاله: "ليس ما يجري في إسرائيل الآن مجرد قوانين عنصرية يريد اليمين إجازتها، بل الحديث عن حرب ثقافية شاملة في مجالات عديدة لتغيير صورة الدولة وصبغتها. إن من يعتقد أن الحديث فقط هو عن محاولة لتغيير النظام يضل في الأوهام. إن ما يجري إزاء أعيننا الآن هو حرب. ففي هذا الخريف نشبت حرب ثقافة في إسرائيل وهي تشتعل في جبهات أوسع وأعمق كثيرا مما يبدو للناظر. وليس الموجود في دائرة الفعل هو نظام الدولة فقط الذي هو أمر مصيري أيضاً، بل الحديث عن صورة إسرائيل. ولهذا قد تصبح هذه المعركة الأكثر مصيرية في تاريخ الدولة منذ حرب (الاستقلال)". ويضيف: "الهجوم على النظام القائم شامل في جميع الجبهات وهو تسونامي سياسي وطوفان ثقافي وزلزال اجتماعي وديني... نحن في أوله فقط. إن ادعاء أننا ديمقراطية غربية مستنيرة يُستبدل به بسرعة مخيفة واقع مختلف لدولة دينية وجاهلة وأصولية وعنصرية وقومية وظلامية". ويختم: "اليد القومية تسن القوانين المعادية للديمقراطية والفاشية الجديدة، واليد الحريدية تضعضع سلوك الفرد ومساواة المرأة، واليد العنصرية تعمل على مجابهة غير اليهود، واليد الاستيطانية تزيد في تعزيز قبضتها على إسرائيل في الداخل أيضاً، ويدٌ أخرى تقلب في التربية والثقافة والفن". ومن جهته، يقول "سلاي مريدور"، السفير في الولايات المتحدة بين عامي 2006 و2009، إن "موجة عكرة تهدد إسرائيل؛ قومية متطرفة. هذه الموجة خطيرة على نحو خاص وذلك لأن مُحْدثيها ليسوا أبطالا يمسكون نوازعهم بل هم سياسيون يشعلون نار المشاعر الدفينة للخوف والكراهية. وعليه، هنا الاختبار الأكبر لنتنياهو. إذا لم يطفئ فوراً النار الغريبة الناشئة عن معسكره، فليس فقط مكانة إسرائيل الدولة ستتضرر، بل ستشتعل النار في أرجاء المجتمع كله، وسيتصاعد اللهب ليحرق روح الصهيونية". ولأن العنصرية في إسرائيل مسألة بنيوية عميقة، فإنها، بعد أن ضربت فلسطينيي 48، فاضت أيضاً على إسرائيليين يهود. فمع فشل الحكومة الإسرائيلية الحالية في الانتصار بأي معركة سياسية خارجية على صعيد المفاوضات، سارعت للبحث عن عدو داخلي أضعف فتحولت العنصرية التي تغمر إسرائيل اليوم إلى تيار مركزي معلن، إذ بعد أن كانت ظاهرة شارع أصبحت تيارا مركزياً ممثلا بكنيست وحكومة ووزراء يقودهم رئيس وزراء يرى إسرائيليون وغربيون متزايدون أن أولويته تتلخص في الحفاظ على موقعه حتى لو تأذت المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية وحتى لو انهار السلام.